كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وكان الله غفورًا رحيمًا}.
إنها صفقة رابحة دون شك. يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى- خطوة الخروج من البيت مهاجرًا إلى الله ورسوله- والموت هو الموت. في موعده الذي لا يتأخر. والذي لا علاقة له بهجرة أو إقامة. ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده. ولخسر الصفقة الرابحة. فلا أجر ولا مغفرة ولا رحمة. بل هنالك الملائكة تتوفاه ظالمًا لنفسه!
وشتان بين صفقة وصفقة! وشتان بين مصير ومصير!
ويخلص لنا من هذه الآيات التي استعرضناها من هذا الدرس- إلى هذا الموضع- عدة اعتبارات، نجملها قبل أن نعبر إلى بقية الدرس وبقية ما فيه من موضوعات.
يخلص لنا منها مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل الله؛ والقعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد.
اللهم إلا من عذرهم الله من أولي الضرر، ومن العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا.
ويخلص لنا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي النظام الإسلامي، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني.. وقد عدته الشيعة ركنًا من أركان الإسلام- ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا. لولا ما ورد في حديث: «بني الإسلام على خمس...» ولكن قوة التكليف بالجهاد؛ وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية؛ وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض- الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية- كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته.
ويخلص لنا كذلك أن النفس البشرية هي النفس البشرية؛ وأنها قد تحجم أمام الصعاب، أو تخاف أمام المخاطر، وتكسل أمام العقبات، في خير الأزمنة وخير المجتمعات. وأن منهج العلاج في هذه الحالة، ليس هو اليأس من هذه النفوس. ولكن استجاشتها، وتشجيعها، وتحذيرها، وطمأنتها في آن واحد. وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم.
وأخيرًا يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة؛ ويقود المجتمع المسلم؛ ويخوض المعركة- في كل ميادينها- وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية؛ وطبائعها الفطرية، ورواسبها كذلك من الجاهلية. وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله.
بعد ذلك يستطرد الى رخصة، يبيحها الله للمهاجرين، أو الضاربين في الأرض للجهاد أو للتجارة. في حالة خوفهم أن يأخذهم الذين كفروا أسارى. فيفتنوهم عن دينهم. وهي رخصة القصر من الصلاة- وهو غير القصر المرخص به للمسافر إطلاقًا سواء خاف فتنة الذين كفروا أو لم يخف- فهذا قصر خاص.
{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوًا مبينًا}.
إن الضارب في الأرض في حاجة ماسة إلى الصلة الدائمة بربه، تعينه على ما هو فيه، وتكمل عدته وسلاحه فيما هو مقدم عليه، وما هو مرصود له في الطريق.. والصلاة أقرب الصلات إلى الله. وهي العدة التي يدعى المسلمون للاستعانة بها في الشدائد والملمات. فكلما كان هناك خوف أو مشقة قال لهم: {واستعينوا بالصبر والصلاة}.
ومن ثم يجيء ذكرها هنا في إبانها المناسب، وفي وقت الحاجة إليها والاضطرار. فما أحوج الخائف في الطريق إلى أن يطمئن قلبه بذكر الله. وما أحوج المهاجر من أرضه إلى أن يلتجئ إلى حمى الله.. غير أن الصلاة الكاملة- وما فيها من قيام وركوع وسجود- قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب.
أو قد تلفت إليه أنظار عدوه فيعرفوه. أو قد تمكن لهم منه وهو راكع أو ساجد فيأخذوه.. ومن ثم هذه الرخصة للضارب في الأرض أن يقصر في الصلاة عند مخافة الفتنة.
والمعنى الذي نختاره في القصر هنا هو المعنى الذي اختاره الإمام الجصاص. وهو أنه ليس القصر في عدد الركعات بجعلها اثنتين في الصلاة الرباعية. فهذا مرخص به للمسافر إطلاقًا، بلا تخصيص حالة الخوف من الفتنة. بل هذا هو المختار في الصلاة للمسافر- كفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل سفر- بحيث لا يجوز إكمال الصلاة في السفر في أرجح الأقوال.
وإذن فهذه الرخصة الجديدة- في حالة خوف الفتنة- تعني معنى جديدًا غير مجرد القصر المرخص به لكل مسافر. إنما هو قصر في صفة الصلاة ذاتها. كالقيام بلا حركة ولا ركوع ولا سجود ولا قعود للتشهد. حيث يصلي الضارب في الأرض قائمًا وسائرًا وراكبًا، ويومئ للركوع والسجود.
وكذلك لا يترك صلته بالله في حالة الخوف من الفتنة، ولا يدع سلاحه الأول في المعركة، ويأخذ حذره من عدوه: {إن الكافرين كانوا لكم عدوًا مبينًا}.
وبمناسبة الحديث عن صلاة الضارب في الأرض، الخائف من فتنة الذين كفروا، يجيء حكم صلاة الخوف في أرض المعركة؛ وتحتشد جنبات هذا الحكم الفقهي بلمسات نفسية وتربوية شتى:
{وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم. ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم. ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة. ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم. وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا. فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم. فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا}.
إن المتأمل في أسرار هذا القرآن؛ وفي أسرار المنهج الرباني للتربية، المتمثل فيه، يطلع على عجب من اللفتات النفسية، النافذة إلى أعماق الروح البشرية. ومنها هذه اللفتة في ساحة المعركة إلى الصلاة.
إن السياق القرآني لا يجيء بهذا النص هنا لمجرد بيان الحكم «الفقهي» في صفة صلاة الخوف. ولكنه يحشد هذا النص في حملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة.
وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة! ولكن هذا طبيعي بل بديهي في الاعتبار الإيماني. إن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة. بل إنها السلاح! فلابد من تنظيم استخدام هذا السلاح، بما يتناسب مع طبيعة المعركة، وجو المعركة!
ولقد كان أولئك الرجال- الذين تربوا بالقرآن وفق المنهج الرباني- يلقون عدوهم بهذا السلاح الذي يتفوقون فيه قبل أي سلاح.
لقد كانوا متفوقين في إيمانهم بإله واحد يعرفونه حق المعرفة؛ ويشعرون أنه معهم في المعركة. متفوقين كذلك في إيمانهم بهدف يقاتلون من أجله؛ ويشعرون أنه أرفع الأهداف جميعًا. متفوقين أيضًا في تصورهم للكون والحياة ولغاية وجودهم الإنساني، تفوقهم في تنظيمهم الاجتماعي الناشئ من تفوق منهجهم الرباني.. وكانت الصلاة رمزًا لهذا كله، وتذكيرًا بهذا كله. ومن ثم كانت سلاحًا في المعركة. بل كانت هي السلاح!
والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو. وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم، ليميل عليهم ميلة واحدة! ومع هذا التحذير والتخويف؛ التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قومًا كتب الله عليهم الهوان: {إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا}.. وهذا التقابل بين التحذير والتطمين؛ وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة؛ هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!
أما كيفية صلاة الخوف؛ فتختلف فيها آراء الفقهاء، أخذًا من هذا النص، ولكننا نكتفي بالصفة العامة، دون دخول في تفصيل الكيفيات المتنوعة.
{وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم. ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك. وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم}.
والمعنى: إذا كنت فيهم فأممتهم في الصلاة، فلتقم طائفة منهم تصلي معك الركعة الأولى. على حين تقف طائفة أخرى بأسلحتها من ورائكم لحمايتكم. فإذا أتمت الطائفة الأولى الركعة الأولى رجعت فأخذت مكان الحراسة، وجاءت الطائفة التي كانت في الحراسة ولم تصل. فلتصل معك ركعة كذلك. (وهنا يسلم الإمام إذ يكون قد أتم صلاته ركعتين).
عندئذ تجيء الطائفة الأولى فتقضي الركعة الثانية التي فاتتها مع الإمام. وتسلم- بينما تحرسها الطائفة الثانية- ثم تجيء الثانية فتقضي الركعة الأولى التي فاتتها وتسلم- بينما تحرسها الطائفة الأولى.
وبذلك تكون الطائفتان قد صلتا بإمامة الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك مع خلفائه وأمرائه، وأمراء المسلمين (منهم) في كل معركة.
{وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم. ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة}.
وهي رغبة في نفوس الكفار تجاه المؤمنين دائمة. والسنون تتوالى، والقرون تمر، فتؤكد هذه الحقيقة، التي وضعها الله في قلوب المجموعة المؤمنة الأولى. وهو يضع لها الخطط العامة للمعركة. كما يضع لها الخطة الحركية أحيانًا. على هذا النحو الذي رأينا في صلاة الخوف.
على أن هذا الحذر، وهذه التعبئة النفسية، وهذا الاستعداد بالسلاح المستمر، ليس من شأنه أن يوقع المسلمين في المشقة.
فهم يأخذون منه بقدر الطاقة:
{ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} فحمل السلاح في هذه الحالة يشق، ولا يفيد. ويكفي أخذ الحذر؛ وتوقع عون الله ونصره:
{وخذوا حذركم. إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا}.
ولعل هذا الاحتياط، وهذه اليقظة، وهذا الحذر يكون أداة ووسيلة لتحقيق العذاب المهين الذي أعده الله للكافرين. فيكون المؤمنون هم ستار قدرته؛ وأداة مشيئته.. وهي الطمأنينة مع ذلك الحذر؛ والثقة في النصر على قوم أعد الله لهم عذابًا مهينًا.
{فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم. فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة. إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا}.
وهكذا يوجههم إلى الاتصال بالله في كل حال، وفي كل وضع، إلى جانب الصلاة.. فهذه هي العدة الكبرى، وهذا هو السلاح الذي لا يبلى.
فأما حين الاطمئنان {فأقيموا الصلاة}.. أقيموها كاملة تامة بلا قصر- قصر الخوف الذي تحدثنا عنه- فهي فريضة ذات وقت محدد لأدائها. ومتى زالت أسباب الرخصة في صفة من صفاتها عادت إلى صفتها المفروضة الدائمة.
ومن قوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا}.. يأخذ الظاهرية رأيهم في عدم قضاء الفائتة من الصلاة لأنها لا تجزي ولا تصح. لأن الصلاة لا تصح إلا في ميقاتها المعين. فمتى فات الميقات، فلا سبيل لإقامة الصلاة.. والجمهور على صحة قضاء الفوائت. وعلى تحسين التبكير في الأداء، والكراهية في التأخير.. ولا ندخل بعد هذا في تفصيلات الفروع.
ويختم هذا الدرس بالتشجيع على المضي في الجهاد؛ مع الألم والضنى والكلال. ويلمس القلوب المؤمنة لمسة عميقة موحية، تمس أعماق هذه القلوب، وتلقي الضوء القوي على المصائر والغايات والاتجاهات:
{ولا تهنوا في ابتغاء القوم. إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون. وترجون من الله ما لا يرجون. وكان الله عليمًا حكيمًا}.